كعادتها كل يوم ارتدت بنطالها الأسود الذي يكبرها بثلاث مقاسات ، مع قميصها ذو اللون الزهري الفاتح ،حملت حقيبتها اليدوية بألوانها المزكرشة البالية و توجهت نحو محطة الحافلة.
كان الجو ربيعياً والسماء غيومها بيضاء تبعث الأمل ، غير أن ملامح جمانة لا تبث الفرح في وجه من رآها، فهي قليلا ما ابتسمت وقليلاً ما أفسحت العنان للتجوال بين تفاصيل وجهها المندثرة.
بعد دقائق معدودة، نزلت من الحافلة وقفت أمام كلية العلوم ، أخذت نفساً عميقاً كمن أرادت خوض معركة أو حرب، سرحت بعينيها الكبيرتين الزرقاوتين كزرقة مياه البحر في شهر يونيو وقالت : مرحباً أيها اليوم الجميل، لنرَ ما ستحمله لي من مفاجآت .
بخطوات متسارعة تسير متحاشية الحديث مع الطلاب، تحضن حقيبتها وتنطر لليمين تارة وتارة أخرى لليسار ،كأنها لص فار من شرطة تلاحقه .
- مهلا جمانة ، ما بك تسرعين ؟؟ لقد تعبت وأنا ألاحقك .
* ماذا تريد أستاذ جواد ؟ حصة العلوم ستبدأ بعد ثلاث دقائق
- أعلم ، وأنا أيضاً سأحضر الحصة ولهذا ألاحقك، فالمدرج على اليسار وأنت تتجهين ناحية المقصف .
* آه ، كنت ... كنت فقط أريد... نعم تذكرت كنت ذاهبة لشراء عبوة ماء .
- هههههه جمانة أنت لا تعرفين الكذب ، عبوة الماء بيديك ، أريد فقط أن أفهم ما سبب كل هذا التوتر؟
كانت تتمنى حينها لو أخبرته بما تتعرض له من تنمر أثناء الحصص التطبيقية ، لو أنها أفسحت بكل ما تخفيه من أوجاع ومعاناة بين ثنايا قلبها الحزين، لكنها فضلت طأطأة رأسها ككل مرة والسكوت .
* لا شيء أستاذ المعذرة.
جواد هو أستاذ الدروس النظرية بالكلية هو العاشق الصامت، هو روميو في زمن جمانة ، وهو الذي لا يحلو له العمل ولا التركيز دون أن يرى فراشته داخل المدرج أو بين أرجاء الكلية ، بيد أنه من شدة خجل جمانة لم يبح لها بحبه المكنون ولا بصدق مشاعره
في دروس العشق وقوانينه، يحترم رغبتها في السكوت كل مرة ولا يزعجها بتساؤلاته، الشيء الذي يزيد من غيظ الفتيات في الكلية وحقدهن عليها .
- انظري يا نور، قد أتت صاحبة الظفر الطويل
ههههه صحيح أن اسمها جمانة يا مريم، لكن وجهها يشبه الضفدع الذي نقوم بتشريحه في حصة الدروس التطبيقية ..
كلمات الفتيات تلك ، كانت النقطة التي أفاضت الكأس، فأعلنت عن سيل الأعصاب، وابل من الغضب وشلالات من الدموع المنهمرة من عيني جمانة، والتي كانت كفيلة مغادرتها الكلية نحو اللامكان.
جلست لوحدها فوق الصخور قرب البحر تبكي وتصرخ: لماذا أنا يا الله ما حجم ذلك الذنب الذي اقترفته ؟؟
ربت بيديه على كتفيها ، وبصوت تملؤه الأحاسيس المختلطة
و قال : جمانة، يكفيكِ هذا الثقل الذي تحملينه ، أما حان
الوقت لتتمسكي بالحياة، لأن تفرجي على أسنانك الناصعة البياض بابتسامتك الخجولة، لأن تظهري جمال عينيك الزرقاوين اللتان اصطادتاني أول ما رأيتهما .
فلتشهدي يا قناديل البحر ويا حبات الرمال، إني أطلب يد هذه الفتاة للزواج فهلا قبلتي بطارق الباب، عاشق خجول، حبيب معذب، كل أمنياته أن يغنم بزوجة بريئة عفوية طيبة مثلك يا جمانة.
بعد شرودها وذهولها من كلام أستاذها وحبيبها الخفي والذي لطالما أحست به صديقاً للروح.
ردت بصوت مبحوح:
لا يمكن أبداً ماهذا الهراء؟ أنت أستاذي وأنا طالبتك، فمن فضلك انصرف .
قال لها : حسناً لم لا ؟ أخبريني السبب ؟
* قلت لا يا أستاذ جواد، هذا قرار وانتهى. فأرجوك لا تسأل
- لن أصمت هذه المرة يا جمانة ، لقد سئمت ارحميني ، أنا أتوسل لك ، أريد فقط سبباً مقنعاً وصدقيني بعدها سأرحل إلى الأبد .
* اسمع ، أنا لست بفتاة عذراء.. أفهمت !!
- كيف ؟ لا .. لا يمكن، انتِ تمزحين أليس كذلك؟؟
* لا بل أتحدث بكل جدية، لكن لا تسرح بخيالك لبعيد..
منذ عامي الخامس مات والداي ، فحرمت حنان الأم وعطف الأب، وبوصية منهما رحمة الله عليهما، أصبحت خالتي ولية أمري. سنوات مرت في الجحيم ،كنت اكنس وأطبخ، ولا يحق لي اللعب ، ولا الذهاب للمدرسة بل حتى الأكل كنت أعاقب عليه ، فلا أحظى بلقمة صغيرة، حتى أجلب الماء من البئر الذي يقع وسط القرية.
- قال لها : لقد أحسست أن في ماضيكِ لغز ما، لكن ما دخل كل ذلك في زواجي منك وموضوع عذريتك؟
* تريث يا أستاذ، ففتاتك تلك تزوجت وهي في ربيع طفولتها ..
أجل تزوجت رغماً عنها لسبب كان الطمع عنوانه، وبمجرد تقدم شيخ كبير غني لخطبتي ، وافقوا دون استشارة مني ،لازلت أذكر كيف قادوني نحو منصة الزفاف ، كمن يقود أسيراً نحو حبل المشنقة.
أتعلم يا أستاذ جواد أن هذه العيون التي أحببتها كانت مثقلة بكحل المأساة والحسرة على أيام الطفولة ، ألم يخبرك مظهري ونقصان
وزني وتلك الحدائق السوداء تحت عيناي بأني حقاً متعبة .
أتذكر جيداً كيف كان يبتسم ابتسامة ذئب ماكر، فقد نجح في اغتصاب طفولتي ودفن ابتسامتي، رجوته وتوسلت إليه، لكنه أبداً لم يرأف بي رغم صرخاتي .
كنت كلما شاهدت قريناتي تلعبن بالحبل، أخشى على ما في بطني من الموت.
هم قتلوني حقاً، لكني لم أفكر يوماً في قتله، غير أن القدر -إن شاء الله- يخلصني منه كما لو أنه إثم عظيم.
أجل لقد كانت لدغة الأفعى في صيف يونيو الحار ورقتي الرابحة، فأودت بحياة مغتصبي إلى الهلاك بل إلى الجحيم الأبدي، وأصبحت بذلك أرملة صغرى.. فكيف لطفلة ماتت براءتها أن تحيا من جديد؟؟ وهي محكوم عليها بالإعدام ، نعم إعدام في قبور التعاسة والحزن، وكيف لمن أجهضت في سن الرابعة عشر أن تعرف معنى الحياة؟؟ فأرجوك اذهب بعيداً ولا تسألني مجدداً ..
نظرت إليه برهةً والهدوء يعلو المكان تمنت لو أنه سأل وتكلم كما كان يفعل كالمعتاد لكنه بادر بطأطأة رأسه .
خاب ظنها ككل مرة فاستدارت للذهاب وعيونها مغرورقة بالدموع. أمسك بيديها، وألقى بها في حضنه بقبضة محكمة ثم قال : أنا لازلت أرى براءتك ترفرف بين رموش عيناكِ يا جمانة ، فمن تحدت كل تلك الصعاب وتناست كل الجراح ووقفت قوية كالصخور تستحق الحياة، صدقيني سأجعل من ثوب تخرجك منشفة لنمسح معاً دموع الطفولة.