مثال على صفة البخل عند العرب في بداية العصور

مثال على صفة البخل عند العرب في بداية العصور

  • إن أدب الأمة مرآة لحياتها الإجتماعية والفكرية والوجدانية ، سواء قصد الأديب أن یکون أدبه تصويرآ لهذه الجوانب من الحياة أو لم يقصد ، لأن الأديب لا يملك أن يخرج عن نطاق عصره وبيئته مهما يحاول ذلك ...
  • ذلك أن أسلوبه في التفكير ، وتفاعله مع الأحداث ، واستجابته للمؤثرات ، وسلوكه الإجتماعي ، كل أولئك أمور يحكمها المناخ الفكري الذي يعيش فيه الأديب ، والبيئة التي ينمو في ظلها ، والأعراف الإجتماعية التي تبسط سلطانها على أبناء مجتمعه ، وتدين كل محاولة للتمرد عليها . 
  • * الظواهر الإجتماعية :


  • من هنا فإن الظواهر الإجتماعية التي يصورها أدب أمة ما ، لا تكون في جميع الأحوال مماثلة للظواهر الإجتماعية في آداب الأمم الأخرى ، وإن اتفقت التسميات ، فالدوافع قد تكون مختلفة ، والنظرة إليها لیست واحدة في شتى المجتمعات الإنسانية ، ومواقف الأدباء منها متباينة بل أن أدب الأمة الواحدة لا يتناول هذه الظواهر على نحو واحد في مختلف البيئات ..
  • فكذلك نرى أن الأدب العربي حين تناول هذه الظواهر تناولها على النحو الذي يتلاءم مع المجتمع الذي وجدت فيه . وسنعرض الأحاديث وكيف صور أدبنا القديم طائفة من الظواهر الإجتماعية والمعاني الإنسانية ، والظاهرة اليوم هي البخل .
  • * كرماء بالضرورة :


  • كل عربي يقدم البخل في نظر الجاهليين ، خروج على الأعراف الإجتماعية التي أفرزتها حياة الصحراء وضروراتها ، والتي كانت تفرض مع القری ( الطعام ) إلى اي ضيف ينزل به ، عملآ بمبدأ المعاملة بالمثل ، وامتناع الرجل من أداء هذا الواجب يجعله عرضة للإحتقار والإزدراء من قبل مجتمعه ، وبخله بالقرى يلصق به سبة لا يمحوها تطاول الأيام ...
  • بل أن هذا العار يتجاوز الرجل إلى قبيلته فيغدو لطخة سوداء تشين صحيفتها مدى الدهر ، وتسليط الضوء القوي على هذه النقيصة ، إنما يفسره مدى حاجة المجتمع الجاهلي إلى توفير القرى لكل مسافر يضرب في مفاوز الصحراء المترامية الأطراف ، ولا سيما حين تهب الأعاصير العاتية فتعوق سفره وتلجئه إلى الإحتماء بأول خباء يجده في طريقه ، ولا يطالب من ينزل به الضيف في هذه الأحوال بأكثر من تقديم شيء من اللبن والتمر للوافد ، والمأوى في بعض الأحيان . والإخلال بهذا الأمر يجعل الإنتقال في مجاهل الصحراء أمرآ غير مأمون العواقب ، ومن هنا جاء إلحاح الشعراء العرب القدامى على ذم البخل وعده من أشنع النقائص ، ومن هنا أيضاً كانت القبائل تتحامی ، جهدها أن تعير بهذه النقيصة ببذلها القرى لكل وافد . 
  • * هجاء الحطيئة للبخل وتشييده للكرم :


  • ومن العجب أن الشاعر الذي أكثر من ذم البخل عصرئذ ، كان هو نفسه معروفاً بهذه النقيصة ، ونقصد به الحطيئة ، حتى عرف عنه هجاؤه لأضيافه ، يذكرون مثلاً أن رجلاً اسمه ابن الحامة مر به وهو جالس بفناء بيته فقال له : 
  • السلام علیکم .. 
  • فقال : قلت مالا ينكر ..
  • قال : إني خرجت من عند أهلي بغير زاد . 
  • فقال : ما ضمنت لأهلك قراك .
  • قال : أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك نار فأتفيأ به ؟ 
  • قال : دونك الجبل يفيء عليك .
  • قال : أنا ابن الحمامة . 
  • قال : انصرف وکن ابن أي طائر شئت ...
  • وأتاه رجل مرة ، وهو في غنمه ، فقال له : يا صاحب الغنم ..
  • فرفع الحطيئة عصاه ، وقال : إنها عجراء من سلم . فقال الرجل : إني ضيف ..
  • فأجابه : للضيفان أعددتها ، (وقد ذكروا أنه ما نزل به ضيف إلا هجاه ) ، ومع هذا كان الحطيئة كثيراً ما يهجو البخلاء ويشيد بالكرم والكرماء ، وتنسب إليه قصيدة فريدة في شعرنا القديم ، تصور کرم العرب في صورة تكاد تكون أسطورية ، فما تعليل هذا التناقض في سلوك الحطيئة ؟
  •  * السبب في هجاء الحطيئة :


  •  إن الحطيئة عانى الفقر والإهمال في نشأته الأولى ، فتولدت لديه عقدة الحقد على مجتمعه ، ووجد في نفسه القدرة على قول الشعر ، فاستغلها في توفير الرزق لنفسه ولعياله ، وسلط هجاءه المقذع على كل من قصر في إكرامه واتخذه أداة ينتقم بها من مجتمعه المسؤول عمالحق به . 
  • فأسمعه يقل مثلاً في رجل التمس منه عطاء فلم يلب طلبه ، و يرسم له هذه الصورة الكاريكاتورية الساخرة : 
  • كدحت بأظفاري وأعملت معولي
  •                    فصادفت جلمودآ من الصخر أملسا
  •  تشاغل لما جئت في وجه حاجتي
  •                   وأطرق حتی قلت : قد مات أو عسى 
  •  فقلت له لابأس لست بعائد
  •                    فأفرخ تعلوه السمادير ملبسا
  • * الخاتمة:


  • البخل آفة عرفتها المجتمعات البشرية كلها ، وصورتها آداب الأمم جميعاً ، ولكن صورة البخل لم تكن واحدة في هذه الأداب ، بل إنها لم تكن واحدة في أدبنا، لأن النظرة إلى هذه النقيصة كانت تختلف من بيئة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر .
  • - وأخيراً: إن كان لديك أي اقتراح أو ملاحظة أو إضافة أو تصحيح خطأ على المقال يرجى التواصل معنا عبر الإيميل التالي: Info@Methaal.com
    لا تنس عزيزي القارئ مشاركة المقال على مواقع التواصل الاجتماعي لتعم الفائدة.
    ودمتم بكل خير.