صالح الزغاري، ونموذج اليوتيوبر المقاوم
لا يكاد يختلف اثنان من ذوي النظر والفكر أن السمة الغالبة على محتوى وسائط التواصل الاجتماعي وروادها الأكثر شهرة في وقتنا الراهن هي "التفاهة"، وهو المصطلح الأكثر دقة في وصف الحالة السائدة للسواد الأعظم والأكثرية الغالبة من أصحاب وصانعي المحتوى -إلا من رحم ربي-، ممن دفعتهم الرغبة في الشهرة وذياع الصوت، ومن ثم جني الأرباح المالية، إلى محاولة نشر المحتوى، أيا كان هذا المحتوى الجاذب ومهما كانت قيمته العلمية أو الأخلاقية أو القِيمية، والحصول على المشاهدات والإعجابات وزيادة عدد المتابعين. فمن آكل "للبراز"، إلى أزواج تافهين ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطعهم الفجة التي تفتقر الى أي مضمونٍ نافع يخدم الأسرة أو المجتمع، أو ينشر الفضيلة، أو يحض على اكتساب العلم وتحصيل المعرفة النافعة في أي من مجالاتها. لقد انتهى بنا الأمر إلى أن تصبح ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي وروادها من "التافهين" صناعة العصر، وأقول صناعة، لأنها مدفوعة من الخلف بجموع من المنتفعين والمتكسبين من أمثال هؤلاء "التافهين" ومن لف لفهم.
وفي الآونة الأخيرة، برز من بين ركام صانعي المحتوى من المشاهير شابٌ وسيم من بيت المقدس في فلسطين المحتلة، بهي المحيا، أشم كقمم جبال فلسطين، تضيء عيناه بريقاً متوهجاً من العزة والعنفوان والإباء، تزينه ابتسامةٌ جميلة ساحرة لا تعرف إسفافًا ولا ميوعة، شاب ليس كبقية صانعي المحتوى من المشاهير بل صاحب قضية وصانع محتوى إيجابي يخلو من أي ملمح من ملامح التفاهة ومظاهرها التي أزكمت أنوفنا وشوهت فطر أبنائنا وخلقت جيلاً تافهًا لا تهمه فضيلة ولا تردعه حرمة عن فعل أي شيء يجلب الانتباه ويصنع الشهرة المصطنعة المكذوبة.
فكان صالح الزغاري الذي ينتسب إلى بيت حنينا، الذي جاء من بين أزقة القدس القديمة، حاملاً راية عزّ حملُها، ورفع لواءً صعُب على الكثيرين رفعه، إنه لواء التعريف والتثقيف بقدس الأقداس ومهوى الأفئدة ومرتع الصالحين ورياض المجاهدين ومصلى الأنبياء وسيد المرسلين، مدينة القدس ومسجدها المبارك. فقد كانت حلقاته التي بثتها ومازال يبثها على اليوتيوب كالغيث لكل متعطش متلهف لمعرفة المدينة المقدسة، ومعايشة تفاصيل حياة أهلها والتعرف على زقاقها وحواريها، طعامها وشرابها، شوارعها وممراتها، وكل جميل فيها، والنظر الى أدق تفاصيل المسجد الأقصى المبارك ومرابعه الجميلة الساحرة، ومواقعه الأثرية التاريخية التي لم تخل من بصمة ظاهرة لكل عصرٍ من العصور الإسلامية المتعاقبة بل وحتى غير الإسلامية. جاءت مقاطع صالح على اليوتيوب كاشفة ومعرية لجرائم الاحتلال بحق المدينة المقدسة، وأساليبه القذرة في قمع أهلها وتزوير تاريخها ومصادرة حق الإنسان العربي الفلسطيني في العيش فيها. جاءت مقاطع صالح الزغاري، بما فيها من عفوية وجمال سجية و "لكنة" فلسطينية مقدسية جميلة لتقول للعالم أن ثمة قضية أرض وإنسان إسمها "قضية فلسطين"، وأن ظلماً لا تطيقه الجبال قد وقع ومازال يقع كل يوم بحق المدينة وأهلها وبحق فلسطين بكامل ترابها.
لقد جاء صالح الزغاري بسمة مغايرة تمامًا للسمة الغالبة التي اتُفق عليها وهي "التفاهة"، وجاء ليقلب الطاولة على كل صانعٍ للمحتوى من التفاهين، ويصفع كل صاحب محتوى هابط وضيع، فحملت حلقاته معاني العز والإباء والشموخ في وجه المحتل، ورسّخ في قلوب مشاهديه ومتابعيه وضاعة المحتل وهشاشته وضعفه، فقام يتجول في حجوره المصطنعة، ودخل معاقل الاحتلال شامخاً قويًا، فكانت حلقته الخاصة بحائط البراق الذي دخل ساحته بكل شموخ وإباء حتى وصل إلى جوار الحائط الشريف، وقد اصطف شُذاذ الآفاق على جنباته يؤدون صلواتهم التلمودية المشؤومة المزعومة. لقد أثارت شجاعة صالح وجرأته تلك حفيظة الاحتلال وأبواقه الذين لم يتوانوا أن يشنوا على صالح حملةً شعواء مطالبين بالحد من نشاطه وكبح جماح ذلك الفارس المغوار، وكان أن حذفت حلقته تلك مرات عديدة من اليوتيوب بناءً على شكاوى المحتل المتكررة.
ولم يكتف صانع المحتوى الصالح "صالح" بتجسيد تلك المعاني من خلال التصوير فحسب، بل جسدها بدمه، ودمغها بتضحيته وبباستله، فكان أن اعتقله الاحتلال سابقًا لمشاركته في تغطية اعتقال النشطاء المقدسيين، تلاها مشاركته في الرباط الأخير في المسجد الأقصى والمصلى القبلي منافحًا بقمرته وصدره العاري عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشاركًا إخوانه شرف الذود عن حمى المسجد الأقصى المبارك الذي كان يمهد الاحتلال البغيض للاستيلاء عليه وإتمام السيطرة المكانية، بعد السيطرة الزمانية، على حرمه الشريف ومصلّاه الطاهر. فكانت نتيجة التصدي أن أصيب بثلاث إصابات بالرصاص المطاطي والقنابل الصوتية والغاز المدمع، حتى أنه قد تم إجلاءه وإسعافه مع إخوته من المصابين في المواجهات المباشرة مع قوات الإحتلال البغيض، ليعود بعدها ويستأنف عمله كأن شيئا لم يكن، ليعاود الكرة ويعيد الاحتلال استهدافه وضربه من قبل عشرة من المجندين الذين اجتمعوا عليه جملة واحدة!.
لقد خلقت الحالة الجهادية المقاومة لصالح الزغاري عبر اليوتيوب نموذجًا جديداً ليس كغيره من النماذج التي ذاع صيتها وانتشرت أسماؤها، فقد جسد هذا البطل حالة اليوتيوبر المقاوم المرابط المدافع عن أمته والمنافح عن وطنه في وجه الاحتلال البغيض، والذي لم يكن هدفه، كما هدف غيره، مجرد لعاعة من الدنيا وجمع للتافهين من المعجبين "والمعجبات"، بل صناعة المحتوى المقاوم الذي يستنهض العزيمة ويبث روح التحدي والإصرار على مقارعة المحتل وفضح مخططاته، والمشاركة في بناء جيل التحرير عبر وسائل العصر وأدواته.
وختاماً، فالله العلي القدير أسال أن يحفظ صالح وإخوانه ومن عاونه على صناعة محتواه النافع المقاوم المقارع للمحتل، وأن يجعل منه النموذج الصالح لصناع المحتوى على وسائط التواصل الاجتماعي، فيكونوا كما صالح رواد نهضة وبناة أمة وصانعي رجال، في زمن عز فيه الرجال من أمثال صالح الزغاري.